الجمعة، 24 يونيو 2011

في رثاء الدكتور نبيل الخطيب

في الليلة الظلماء... " في رحيل الدكتور نبيل الخطيب" 2011-05-09





مرة أخرى... مرّات ومرّات مع الدكتور نبيل الخطيب... الاستثنائي، الحبيب، المعلم، الكبير، المتواضع، الكريم، المحب... الى ما هنالك من شيم... تصل الى مدى حقيقة لا يختزنها داخله إلاّ قلة من البشر.

في اللحظة التي حاولت فيها أن ألملم أفكاري وأتغلب على مشاعري لأكتب اليك يا حبيب، فاجأني حفيدك "نبيل" بتلاوة سورة من القرآن الكريم وهو جاهل للحقيقة الصعبة... يستذكر ابن السبع سنوات كلام الله الذي بدأ بحفظه... دون أن يعرف أن من أحبه أكثر من أي شيئ في الكون... قد رحل بجسده وقد انقطع إلا عن ثلاث، عمله وصدقة جارية وولد أو حفيد يدعو له ويتلو لروحه القرآن.

هذا هو قدر الله عزّ وجلّ... نسلّم به ونؤمن بحكمه وبحكمته... ولا نعترض... وكأن الله سبحانه، ألهم "النبيل" الحفيد أن يتلو ما تيّسر لصغر سنه من القرآن العظيم... مهداة لروح الجد "النبيل" وعرفاناً بفضله! وكأني بولدي يقول لجده... يا حبيب... الآن عرفنا حقيقة... أن البدر يفتقد حقاً... وأن في ظلمة الحياة نحتاجك دوماً بدراً يضيئ طريقنا... يصوّب مسارنا... يشعّ علينا بكرم نوره وصدق محبته ونبل شيمه... ونشتاق الى بهاء طلته ما حيينا....

*** *** *** ***

علّمتنا يا "نبيل" في غيابك مثلما علمتنا في حياتك...علمتنا يا حبيب حقاً... كيف يفتقد البدر في الليلة الظلماء...

وعلّمتنا يا أعز الناس، أن فقدان استثنائي أكثر مرارة من فقدان مجرد عزيز أو قريب أو غالي...

استثنائي في وجودك واستثنائي عند الغياب... شامخ في حياتك كأنك العزّ... وفي مماتك واقف كأنك الأرز...

كبير في المشوار الجليل... وكبير عند الرحيل... جمعت الأحبة في ربوع قلبك الكبير... وجمعتهم عندك في الوداع الأخير...

لا نميّز في الجموع التي شيّعتك قريباً أو بعيداً...نسيباً أو صديقاً... كويتياً أو لبنانياً... الكل يبكيك "لغاية في نفسه"... من يفتقد احسانك بكاك... ومن يفتقد مشورتك بكاك... ومن يفتقد حبك بكاك... ومن يفتقد علمك بكاك... ومن يفتقد حضنك وحنوّك وهدوئك ورسالتك وقيمك ورقّتك بكاك... ومن يفتقدك صديق عمر ومن يفتقدك شخصية متميزة... ومن يفتقدك "انساناً" بكل المعاني... ومن... ومن... الكل...الكل بكاك... ويبكيك...

علّمتنا... يا " نبيل" أن محبة الناس... لا تشترى بمال... بل تزرع على مرّ السنين لتجنى بعد ربيع العمر...

*** *** *** ***

استميحك العذر أنني أكتب عنك وأنني أكتب لك... أستميحك العذر لأني أخالف تواضعك الذي منعك طوال حياتك بأن تحدّث بما أنت عليه أو يتحدث أحد بذلك... وقد آن للستار أن يرفع - ولو جزئياً- عمّن كرّس حياته كلها لعمله ولعائلته ولبيته.

لقد كنت يا "نبيل" في كل حياتك، وفي كل تصرفاتك، وفي كل مبادئك...إسماً على مسمّى...

اخلاصك في عملك طوال الـستة والثلاثين سنة التي قضيتها في خدمة الأمانة العامة لمجلس الوزراء الكويتي، مثال يحتذى به... سرّك عميق، كأنك الصندوق "الأبيض"... وعملك متقن، كأنك الاتقان بذاته... الكويت كانت حبّك ولبنان كان شغفك... لن استرسل في القول حتى لا أفصح عمّا لم ترض البوح به طوال عمرك... ولكنّ والله في القلب غصة لن أستريح من مرارتها، الا حين يعرف الكون بأسره... كم كنت متواضعاً رغم ما عملته وأنجزته، وكم كنت عظيماً حينما غلب صمت حكمتك على بوح انجازاتك...

آخر ما كتبت عند الواحدة فجراً... قبل الرحيل بيوم... ستتشرف به شاشات التلفزة عمّا قريب... ويبقى عملك وصدى كلامك الطيب... في ظهر الغيب... أجره عند الله عزّ مقامه... وطيب أثره في قلوب المحبّين... الذين يعرفون والذين لا يعرفون... ما كنت تعمل بصمت ومن خلف الكواليس...

الكلام عن عملك... أكبر بكثير... من أن تحتويه أسطر... وأعظم بكثير... من أن أجرؤ أن أزيح الستار عمّا أعرفه منه بالصدفة.

عائلتك الصغيرة... تفتقدك كما تفتقدك عائلتك الكبيرة من الزملاء والأصدقاء والرفاق...

"ايمان" زوجتك، بمعاني اسمها تستعين على تحمّل الغياب وهول المصاب... "رولا، رشا وريم" بناتك لا يستطعن التصديق بأن من كرّس حياته لرضاهن، قد استودعهن الله بالخير والحب والرضى... " بلال، هشام ووسام" أصهرتك حمّلتهم حباً لك في قلبهم أكبر من أن يصدّقه بشري... "نبيل، أحمد، دانة، ليا" أحفادك... أترك للدمعة التي في عيني وللغصة التي في قلبي أن تعبّر عن فقدانهم لك، وتعلقهم بك، وفخرهم بأنك كنت ولا زلت وستبقى جدّهم وكبيرهم وقدوتهم في الحياة...

حارس المنزل والفتيات اللواتي يعملن فيه، النجّار، الكهربائي، العمّال... كل من تشرّف بخدمتك أو تشرّف بالعمل في بيتك أو معك، ركع مقبّلاً ونزف باكياً أمام جسدك الطاهر المسجّى، لأنك في حياتك لم ترض لهم يوماً أن يركعوا أو أن ينزفوا أو أن يستجدوا العمل أو الأجر،،، الكل يشهد انك كنت تعطي العامل أجره قبل حتى أن يعمل، وليس فقط قبل ان يجفّ عرقه.

كل من عمل في دارتك "دارة وردة" الشامخة بحسّك وباسمك وبكل ما اعطيتها من حبّ وشغف، حدّثنا بعد غيابك، بما نحن نعرفه حتى لو لم نراه... حدّثنا كم كنت متواضعاً وكم كنت حنوناً وكم كنت كريماً وكم كنت رائعاً في العطاء وفي الجزاء... وكم كنت كبيراً في تجاوزك عن أخطائهم التي قد تكون كبيرة وخطيرة في بعض الأحيان، وكأنك في كل ذلك تعيش عيشة المؤمن الذي يعفو عند المقدرة وتموت ميتة المؤمن الذي يستأهل المغفرة...

أصدقاؤك، لا بل أخوانك من الكويت، " بو عبد الله، بو ناصر، بو محمد، بو سليمان، بو صلاح..." تركوا الأهل والعمل وتفاصيل حياتهم اليومية، ليحضروا الوداع الأخير، ويبقوا الى جانب العائلة الصغيرة يشدّون أزرها ويذّكرونها بأن قدر الله لا مفر منه، ولكنهم والله كانوا بحاجة لمن يشد أزرهم، فالغياب صعب عليهم كما هو علينا، والفراق مرير عليهم كما هو علينا، وأنت عزيز عليهم كما أنت عزيز علينا... ولكن " انّا لله وانّا اليه راجعون" سلمنا بقضاء الله وقدره...

أكرر القول... استثنائي في حياتك واستثنائي في مماتك... ودّعت الأهل والأصحاب والخلاّن قبل وفاتك... وهيّأت دارتك لاستقبال الوفود الشعبية والرسمية التي زارتك مودّعة... فالذي يعرفك جيداً، يعرف أنك لا ترضى الا الشموخ والعزة والكبر... في حياتك وعند الرحيل...

رحمك الله... رحمك الله... رحمك الله... على قدر ما أحسنت في السرّ وأعطيت في الظل وأحببت في العلن...، الكلام فيك كثير، والكلام عنك أكثر... لكن الصفحات لا تسع والقلب لا يقوى... والدموع لا تجف...

"حبيبي"... رحمك الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق